قبل شهرين، كان سماع كلمة "أمريكا" يستدعي صورتين في ذهني: كومة من التفاح الأمريكاني تعلوها ورقة صغيرة تفيد أن الكيلو بست عشرة جنيه، وصورة لعربة فارهة تتحرك، مع صوت احتكاك العجلات بالأسفلت.
الغرب بصفة عامة ارتبط لدي ببرود المشاعر، فسرت هذا بأن الغرب يقع في منطقة باردة، على العكس من مصر الحارة. تتمد الجزيئات عندما تتعرض للحرارة، وفيما يبدو أن ذلك ينسحب أيضا إلى المشاعر، تتنكمش في الغرب بفعل البرودة. كنت استشهد على ذلك بأداء الممثلين الأمريكيين في الأفلام؛ يتحدثون بصوت خفيض، حتى لو كان مشهد قتل أو خيانة. الأمر يختلف كثيرا لدى المصريين، الذين يحبون الصوت العالي في الفرح والحزن ووقت الحياد.
الحرارة تستدعي الطيبة، أمي تقول دائما على الناس إللي من أسوان ناس طيبة. أسوان مثال للطيبة لأن الشمس أكثر حدة هناك، أظن أن الشعور بالأزمة يجعل الناس طيبة بالفطرة، والحر أزمة طبعا، انصباب العرق ... الشعور بالضآلة أمام قوى الطبيعة يصبح رسالة واضحة من السماء، أما الصوت العالي، الخناق مع الغير لأقل الأسباب، فجميعها أعراض لشيء لا دخل لك فيه: أن تصبح أحيانا لا تطاق وأحيانا بـ"قلب خصاية".
لنفس السبب، يجيء في ذهني صورة أمريكيين وإنجليز وألمان يقفون على محطات الأتوبيس، يحملون كتبا في أيديهم، دون أدنى التفاتة، لا حوار صامت ولا غير صامت مع زميل تلفحه حرارة الشمس، وتتواطؤ عليه أفعال البشر: أنا بقالي ساعة مستنية الاتوبيس، هو طلع جراج ولا إيه ؟ ولا هي الحكومة فالحة ف حاجة غير تتشطر على الناس؟ ولا حتى شخص يتحدث في التليفون مع صديق/صديقة، فيداعب الحوار خيالي واكمل باقي أحداث القصة.
أمريكا تحديدا، كانت تعني لي المظاهر (راجع الفقرة الأولى) في مقابل إنجلترا التي تعمل بجد، المواعيد إللي بجد باقول عليها مواعيد إنجليزي. أمريكا كانت تعني لي أيضا جورج بوش و إعدام صدام حسين أول أيام العيد.
قبل ثلاث أعوام، بدأت في اكتشاف الأماكن القديمة وكتبت عن بعضها: بيت السحيمي والهراوي وزينب خاتون. زيارة تلك الأماكن كان شيئا محببا لدي، تهدد قلبي كما لو كانت في حالة حب، في البيت أجلس في البلكونة، احمل كوبا من الشاي، اتابع حركة الشجر، وبقع النور. يحدث صوت الدراجة في أذني رنينا عذبا، اتصور نفسي في دور مسرحي، أقول فيه إن أجدادي كانوا ناس محترمين ، تغرورق عيني بالدموع، أمسح الدموع بكف يدي ، ثم أحرك يدي - آخذ نفسا مكتوما - في إشارة لشخص اتوهم وجوده بأن يتركني في حالي، امسح الدموع من جديد.
قبل عامين، قضيت أسبوع في "أسطنبول" في الخروج الأول من مصر منذ أن كنت طفلة صغيرة. بجانب التعرف على أماكن جديدة، كانت تداعبني أحلام الهجرة، كنت احتاج فقط لشحنة ما، أن أرى رأي العين أن الوضع هنا لم يعد يحتمل، كنت اتخيل أشياء أخرى: فتاة تصفعني على وجهي في محل مثلا، أو سيدة تجر شعري على الأرض في خناقة على مكان في عربة المترو، أو كلاب تطاردني لأيام، وأنا ارتعد من الكلاب، فأقرر بعدها أنه لم يعد بد من الفرار.
عدت من "أسطنبول" ناقمة على المحروسة.
سافرت بعدها بثلاثة أشهر إلى "مكة" ...اذكر تلك الحادثة جيدا، كنت في صحبة أبي في مستشفي بجوار الحرم، كان يحدث الممرضة، حين أوصدت الباب في وجهه. قال لي وقتها إننا مش في مصر. في الكعبة، أشاح الحارس في وجه سيدة عجوز لأنها تصلي أمام الرجال، كانت تجاهد وهي تحرك جسدها، تابعت ملامح وجهه الصارمة، لم يمد يده ليساعدها. تمنيت لو كان بمقدوري أن أصفعه على وجهه.
التأرجح بين الحب والكره، أوصلني إلى الشعور بالرتابة، كإني اهتز في قطار محافظات يسير في الليل على مهل. أنقذني فيلم "أجورا"، تماهيت مع هيباتيا، رأيت في الفضاء مخرجا، تصغر الكرة الأرضية، وتبين على حقيقتها، مجرد كوكب ضمن كواكب أخرى تدور حول نفسها.
جلست في الطائرة، أحدق في الأنوار التي تضيء وتخبو في تلاحق، لمست الشاشة، اخترت ألبوم "مايكل بوبليه"، لم أكن وقتها أحفظ كلمات أغانيه، لكن ما كنت اسمعه يروق لي: "السماء" و"القمر" و"النجوم"، عزف البيانو يلائم الصعود إلى الفضاء. إحدى عشرة ساعة بين السحاب، اهبط بعدها في بلاد العم سام. كنت أعرف إن "نيويورك" ليست الفضاء، لكني كنت أحس بها كذلك، وهل كان بإمكاني شيئ آخر؟
1 comment:
بقالي كتير ماقريتش حاجه ليكي يا شيماء
حمدلله على السلامة
وأيوه مصر فيها طيبة والله بس اللي يدور كويس ومايزهقش بسرعة
شفتي فيلم عسل أسود؟ كان فيه تفاصيل حلوة وحقيقية أكيد حسيتيها لما سافرتي وجيتي
Post a Comment