The blind...

بحكم عملي، التقيت به العام الماضي في إمتحان القبول بقسم اللغة الإنجليزية و كان أول ما أذهلني هو ابتسامته الدائمة ، الساخرة في كثير من الأحيان وهو يطلب مني أن أكرر عليه السؤال، أو صبره الشديد حين يمسك بآلة تشبه المفك الصغير و ينقر الورق الأبيض الطويل كي يكتب السؤال الذي سمعه و بهدوء شديد، ودون أي توتر يجيب عليه.

ويبدو أنني محظوظة بالفعل، فقد التقيت به مرة أخرى في إمتحانات الترم الثاني و أخبرته إني أريده أن يساعدني: كنت حينئذ أكتب قصة جديدة وكان البطل الذي أفكر فيه ضرير. قلت له أني لم أستطع أن أكتب حرفا واحدا ، لأني فشلت في أن أعرف كيف يفكر الضرير. (كان بداخلي تساؤلات عديدة ولم أستطع أن أصرح بها: هل هو ناقم على الحياة مثلا؟ هل هو تعيس؟ ترى ماذا ستكون طموحاته وآماله وهو لا يرى من الدنيا سوى أطياف من اللون الأسود؟)

لكن "محمد" كان كريما معي ، و في خلال ساعة ونصف، أخذ يحدثني عن طريقة برايل، عن حالة اليأس التي انتابته ذات مرة وهو يحمل كتابا في يده و يتصور أنه يقرأه، وعن حلمه أن يحصل على "جيد جدا" هذا العام (وقد حصل عليها بالفعل).كنت أسمعه بإهتمام و اكتشفت لأول مرة أنه ليس ضريرا كما كنت اتصور: فهو مثقف ويقرأ كتبا في مجالات مختلفة و يسمع نشرات الأخبار بالإنجليزية ويحب فتاة تعرف عليها من المدرسة ، وفوق كل ذلك له إرادة حديدية تجعله يمر عبر مئات الصعوبات التي يواجهها و يستمر!

"ليس محمد هو الضرير إذن بل نحن!".. نعم ...أنا لست مبصره لأني كثيرا ما أركن للإحباط واليأس وأرى إنه لا أمل في أي شيء! وغيري ضرير لأنه يضيع وقته دون أن يقرأ أو يفكر. وأنت أيضا ضرير –مثلي- لأنك تقف تتفرج على كل ما يحدث ولا تحاول أن تنهض بمجتمعك حتى ولو بأفكار عبيطة (كأن تشتري كتبا من سور الأزبكية وتوزعها على الناس في محطات المترو وتطلب منهم أن يقرأوها).
علاقتي بمحمد لم تنته، و لم أكتب بعد القصة التي كنت أريد أن أكتبها ، و لا أشعر أني بحاجة لذلك ، كل ما أحتاج إليه بالفعل هو أن أكون كاملة الإبصار و أن أقف ضد حالة اللامباله واليأس التي تشدني إليها كل يوم، أن نكون كلنا رجالا ولو لمرة واحدة ..أن ننظر إلى عاهاتنا نحن..و ننهض...

5 comments:

salateenoo said...

لقد كان لي الشرف قبل عدة سنوات ان مررت بتجربة كتلك التي تكتبين عنها ....فقد كان لي صديقا حميما أيام دراستي في الأسكندرية...وكان هذا الصديق...ضريرا...وكان معيدا في قسم اللغة الإنجليزية ....وقد كنت ألازمه معظم الوقت ...تطوعا مني لكي أذهب معه إلى المكتبة التي يتري منها كتب برايل ...أو الى الجامعه لكي يناقش المشرف على رسالة الدكتوراة التي كان يستعد لمناقشتها....أو لنذهب فنتنزه على كورنيش الأسكندرية الرائع...فتضربنا نسائم البحر العليل ويشجينا البحر بصوت أمواجه المتناغمة...

لقد كان صديقا وأخا ومرآة تسطيع أن ترى فيها نفسك ...ما تشعر به وما تريد أن تقوله ...كان ذكيا لدرجة مخيفة ....كنت أخاف أن أفكر وأنا اتكلم معه ...لكي لا يقرأ أفكاري ....وكم من مرة قد شعرت بالضآلة بجانبه...فهو لا يخاف من ان يقول رأيه بصراحة مهما كانت الصراحة موجعه...ولا يمنعه شيء أو شخص من أن يعبر عن رايه بصراحة.....

لقد كان بارعا في تصوير ما يشعر به بدرجة رائعة ...فقد كان يستخدم ألفاظا مثل ."إني أشعر أن ذهني صافيا كما هية صافية السماء الزرقاء"...وهو لا يعلم ما شكل السماء وهي صافية...ولا يعلم ماهو اللون الأزرق...ولكنه يملك إحساسا مرهفا ..وكيف لا وقد كان ينظم الشعر المقفى ...باللغتين العربية والإنجليزية ...وكان يكتب القصص القصيرة والطويلة ....وكان يقد نقدا أدبيا لكل شيئ سواء من أفلام أو قصائد شعرية أو قصص نثرية ...

هل يشعر أحدا أنني أتكلم عن شخص ضرير...

ولكنه ...مات..

نعم...مات وهو نائم...في صمت ...وكأنه ابى أن يخرج عن هدوئه المعهود...في حياته ..وفي مماته

وإنحدرت دمعة ساخنة على وجهي...تحفر بلهيبها نهرا من الدموع التي تتساقط على الأرض ... فتنقش بقعا صغيرة على الأرض...ثم لا تلبث أن تتبخر وتختفي...كحال صديقي..الذي ظهر في حياتي كالحلم...ثم إختفى قبل أن يكتمل الحلم...تاركا ورائه أطنانا من الذكريات والإبتسامات والدوع....وقد علمني أن الضرير ..هو الذي يرى ..ولا يشعر بما يراه

Anonymous said...

يسمع منك ربنا و يبدأ (ولو 50% منهم ) الناس في أهم حاجة لازم تتصلح
فعلا لو غيرنا من نفسنا و عملنا الصح في أبسط الأمور هنبقي اسم علي مسمي ( خير أمةِِ أخرجت للناس )
بجد أسلوبك جميل جدا و بسيط و يحبب الواحد في الموضوع و حاولي تعملي فكرتك دي عن طريق أنك تنزلي كتاب مثلا في الجامعة و يبقي بأقل التكاليف و تحاولي توصلي من خلاله أفكارك اللي من غير ما أعرفها كلها واثق من صحتها و نضجها
ربنا يبعد عنا الضرير الحقيقي ( أعمي القلب مبارك و أعوانه ) .
thanx for sharing

Anonymous said...

عايز أقول ان في حاجة نسيت أخد بالي منها في التعليق اللي فات
لو افترضنا أنك فعلا هتنزلي كتاب أو كده...يا ريت مش تقولي مفيش ممول لأن الناس اللي عايزة تعمل خير موجودين بس محتاجين نصبر و ندور عليهم بتأني ( مش تأني مسر مبارك ) و بإذن الله هنلاقيهم
الأخ الضرير اللي معرفش أسمه ...قصته لوحدها تنفع تبقي أكبر درس يتعلمه الطلبة بدل الهراء المسمي بالتعليم المصري
معذرة للإطالة
أخوكي الصغير .ضياء

Shaimaa Zaher said...

أحمد: كدت أبكي حينما ذكرت أن صديقك توفي، فقد شعرت أني أعرفه أنا أيضا وكنت أتخيلأن الأيام امتدت به ولابد أنه أخذ الدكتوراه الآن ، لذا كان موضوع وفاته صادما بالنسبة لي و أستطيع أن أتصور كم كان صادما بالنسبة لك أيضا..لكن يبدو أن صديقك كان حلما بالفعل..فكأنك ترى حلما جميلا وتصحو من النوم وتجد نفسك تتذكره و تعيد تفاصيله على ذاكرتك بكل ما فيه من أشياء جميلة رأيتها فيه...
الله يرحمه طبعا لجهاده في الحياة رغم فقده للبصر ..

كما أني لولا أن قابلت محمد في القسم ولولا حكاية صديقك كنت طوال عمري سأظن أن الضرير هو من لا يرى، مع أن الواقع يثبت أن هذا الكلام ليس صحيح.....

Shaimaa Zaher said...

ضياء: موضوع إني أنزل كتاب في الجامعة ده شيء صعب و يمكن مستحيل، ببساطة لأن هذا ليس من حق المعيدين.

بس إللي في إيدي أعمله هو أنه انزل للناس مثلا في محطات المترو و اوزع عليهم كتب ..وممكن في الحضانات (كتب أطفال) أو في دور الأيتام...فيه أفكار كثير ممكن الواحد يعملها عشان يشجع الناس العادية ع القراءة..وربنا يسهل..

اخترنا لكم...حنان في الريف و خلي السعادة عادة مع ميادة!

وحشتوني جدا   أنا انهاردا في جو تمانيناتي جميل وباسمع هدى القمر لإيهاب توفيق والدنيا دندنة وباكتب لكم وأنا حاضنة البطانية  عاوزة اشاركم حاجت...