الجدار العازل



إذا كان المجتمع المصري ينظر إلى الأشياء في تضاد لا يقبل تصورا ثالثا: فأنت أما "أهلاوي" أو "زملكاوي" ، وإما "إسلامي" أو "علماني"؛ وإما من "الريف" أو من "مصر"، فإنه لا عجب إذن أن تزداد الهوة وتتسع لو إنك مسلم أو مسيحي.

ولفترة قريبة جدا، لم يكن موضوع المسيحين والمسلمين من الموضوعات التي تشغلني، بل كنت أعتبرها – بالرغم من الحوادث الدامية بين الحين والأخر- من الأكليشيهات التي لابد أن تطرح إذا ما كان اليوم عيد القيام المجيد أو أن هناك إفطار جماعي للرموز المسيحية والمسلمة في شهر رمضان الكريم.

ثم تغيرت وجهة نظري في الآونة الأخيرة ، فبدأت استشعر بالفعل أن هناك شيئا ما "غير سوي" لم يكن هناك في الفترة القريبة الماضية ، على الأقل بالنسبة لي. وللتدليل على كلامي إليكم بعض المواقف التي حدثت بالفعل لي خلال الأسابيع القليلة الماضية:

-- في إحدى المكتبات العامة مع "منى" و"خالد" أميني المكتبة---

منى : بصراحة حالات الناس إللي بتتنصر زادت أوي بشكل مستفز! قال وسمى نفسه بيشوي!

أنا: أيوة...طب ما أنت عندك برضوا حالات لناس بتسلم ...لو دي حالة مش لازم تديها أكبر من حقها...

وهنا تدخل "خالد" مسئول المكتبة ليؤكد على كلامي :

فعلا أن أعرف بنتين أسلموا كده من نفسهم من كام يوم، واحدة منهم حبت واحد مسلم من بلدنا أسمه "محمود" وحيتجوزها.

وهنا وجدت نفسي أقاطعه: بس الحالات دي أنا ما بحترمهاش!

وأزاء ملامح الاندهاش على وجهه رحت أشرح:
"يعني تفتكر البنت إللي حتتجوز واحد مش من دينها...تفتكر يعني موقف أهلها منها حيكون إيه؟ والدتها يعني حتكون فرحانة؟ أكيد حتكون حزينة ومش بعيد تتمنى لو تموت قبل اليوم ده! "

( و بالمناسبة لا أظن أن الوضع كان سيختلف بأية حال لو أن الأم كانت مسلمة تتلقى خبر زواج ابنها من ابنة لاسرة مصرية مسيحية)
----------------------

وإذا كان هذا الموقف جرى في سياق استفزازي من أن هذا المسيحي أسلم وأن ذاك المسلم تنصر، فإن الموقف التالي يعبر بوضوح عن التعصب الذي آل إليه بعض المسلمين:
فقد كنت في زيارة لإحدى المكتبات العامة وكنت أريد مقابلة مدير المكتبة لكي أقوم بتدريس اللغة الإنجليزية هناك.

الرجل - وهو في حكم والدي - بدا لي من الوهلة الأولى غريب الأطوار، فبدلا من أن يلبي طلبي بتدريس كورس واحد وجدته يقول لي بنبرة تمزج بين الجد والهزل "إني خلاص حادرس كورسين!" وعندما رفضت وأنا أقول له إني ظروفي مش حتسمح بأكثر من كورس واحد، أخذ يقول لي في بشاشة:

"وريني إيديكي كده!"

وبحركة تلقائية رفعت يداي لأعلى، فإذا به يقول لي:
" أهو! لا فيه دبلة في الأيد اليمين واللا الشمال! مش عايزة تأخدي كورسين اتنين ليه بقى؟"

والحقيقية أن الله سبحانه وتعالى يمدني في التعامل في مثل هذه المواقف بصبر أحسد عليه ، فرحت أسألة:

"طب لما حضرتك فيه أزمة في التدريس، ليه ما بتطلبش مدرسين من الجامعة الأمريكية؟"

ويبدو أن السؤال أربك الرجل على نحو لا أفهمه ، فراح يسند لي أسباب أقل ما يقال عنها إنها "عجب العجاب"، منها أن القائمين على التدريس في المكتبة بالفعل كلهم "حلوين" وهو يخشى أن يطلب مدرسين من الجامعة الأمريكية فيرسلون له حد "مش حلو!" ثم وجدته يخفض نبرة صوته ويقول لي:

"أنت عارفة طبعا إن إحنا مش ضد الدين ..بس إنت عارفة إن الجامعة الأمريكية أغلبها مسيحيين وممكن يبعثوا لنا حد منهم"

الصراحة أن إندهاشي مما قاله الرجل عن الدين لم يقل بأيه حال عما قاله عن المدرسين "الحلوين" وكأنه يتحدث عن طبق بسبوسة أو بقلاوة! لكني لم أفهم بالضبط سبب تخوفه: هل يظن مثلا إنه إذا قام مسيحي بالتدريس في المكتبة ، سيقوم بالاستيلاء على الكورسات كلها ويطرد إخوانه المسلمين من المكتبة؟ أليس لهذا الرجل جار مسيحي مد له يد العون ذات مرة؟ ألم يقابل في حياته شخص مثل "مينا" جاري الذي ذهب بعربته في وقت متأخر في الليل ليمتلأ تنك عربيتي بالبنزبن؟ بلاش..ألم يركب أتوبيس ذات مرة، فإذا بأحد الواقفات سيدة ترتدي صليبا وبجوارها سيدة ترتدي آية الكرسي، وكلاهما في وضع غير مريح!!
----------------
الموقف التالي حدث بعد ذلك بعدة أيام، فقد كنت في المحاضرة وكان هناك سؤال في الكتاب عما إذا كان في المقابلات الشخصية في بلدك يتم سؤالك عن دينك.

كدت بالفعل أهم بالقول بأنني لا أظن أن أحد في مصر يسأل عن الديانة في المقابلات الشخصية ببساطة لأنها تكون مكتوبة في السي في، فإذا بنشوي – تلميذتي- تقاطعني قائلة إن إحدى الشركات رفضت تعيينها لأنها مسيحية، وإذا بتامر – مهندس ميكانيكا- يقول لي إن إحدى الشركات رفضت تعيينه لأنه مسلم!

الوضع على هذا النحو بدا لي مأساويا بالفعل، فحتى لو اعتبرت تلك الحالات استثناءات ، وحتى لو قلت لنفسك إننا شعب طيب–مسيحين ومسلمين- وهذا حقيقي بالفعل، إلا إني لم أعد أرى أي علاقات إيجابية تنير الطريق، مثلما كان الحال منذ عدة سنوات، فحتى إذا أخذت نفسي كمثال بسيط؛ فأنا لم تعد علاقتي "بسارة" زميلتي القديمة كما كانت، ولم تعد هي متلهفة على محادثتي تليفونيا وأنا لم أعد كذلك، وكريستين- طالبتي القديمة- انقطعت عن محادثتي تليفونيا لأسباب لا أعلمها. هل كان عليّ أن أبذل مجهودا أكبر للحفاظ على تلك البقع من النور؟ هل لابد أن نفعل شيئا حيال تلك القوقعة التي تميز المسيحين والمسلمين الآن؟ هل المسيحون مسؤلون عن ذلك؟ أم أن الحمل الأكبر يقع على كتف المسلمين، وهم الأغلبية؟ وهل هناك بصيص ضوء، أم أن ثمة جدار عازل يتم بناؤه الآن ولن يمكن لأحد بعد سنوات قليلة أن يرى الآخر؟!

سبعة مشاهد لا غير!


المشهد الأول: أنا لاعبة بالية!
أقف أمام مرآة غرفتي وأنا أرفع يديي لأعلى. أستدير وأنا أحرك يديي تدريجيا لأسفل وكأني باليرينا تأخذ وضع الاستعداد قبل أن تقفز في الهواء وبخطوات رشيقة تجوب المسرح ذهابا وإيابا. أخطو خطوة للخلف فتصطدم قدماي بكتب ومجلات ملقاة على الأرض. أشعر بألم طفيف وأندهش حين ترتسم على المرآة صورة لفتاة تشبهني تماما ترتدي زي لاعبي البالية. من المطبخ أسمع صوت والدتي وهي تدعوني لشرب الشاي. أبتعد سريعا عن المرآة وملامح الإحباط تحوم حول وجهي. كان بإمكاني أن أتعلم الباليه وأنا صغيرة. أما الآن فلا أستطيع أن أفعل ذلك، مجرد التفكير في هذا الأمر الآن يبدو مربكا، مربكا للغاية!
المشهد الثاني: لعبة الكوافير
تجيء الساعة الحادية عشرة ويرن جرس الباب رنينا ممتدا وكأنه صفير قطار يطلب من الجميع أن يبتعد. أجري أفتح الباب وأجد مريم وسلمى -بنات أخي- سلمى كانت نائمة وتريد أن تكمل النوم ومريم تفرح لرؤيتي، تحتضنني.. ثم تجلس على الكرسي الواسع في الصالة لتلتقط أنفاسها وتقول لي بصوت عال "إنهارده حنلعب لعبة الكوافير". أبتسم وأجد يدي تمتد إلى خصلات شعري وأنا أرثي لحالي وما سيحدث لي بعد لحظات!
المشهد الثالث: الأمير لابد أن يأتي…
نحن الآن في شهر مارس، على يميني مريم وسلمى وعلى يساري عائشة، ابنة أخي التي جاءت لتوها من موسكو لتقضي معنا بعض الوقت. نجلس نحن الأربعة لنشاهد فيلم كرتون، أنتهز فرصة انشغال عائشة بالفيلم وأمد خدي بجوار وجهها فتطبع قبلة ممتدة على خدي، هكذا ببساطة دون مقاومة منها ودون أن أضطر لمشاكستها. الفيلم قد قارب على الانتهاء والأمير لم يظهر بعد، أيكون هذا الفيلم مضروبا وبلا أمير؟ أضحك لمجرد الخاطر
!
المشهد الرابع: القاهرة الجديدة
في طريق العودة من القاهرة الجديدة، يلفت نظري مشهد للزرع يخرج من وسط المقابر، أقف بالعربة -أنا وأبي وأمي - وأخرج لألتقط صورة بالكاميرا لهذا المشهد. حين أقترب من المكان، يلتف حولي متطفلون وعابرو سبيل، يخبرونني بأن هذه المقابر كانت خاصة باليهود. "يهود!" أقولها بفزع وعيني تتابع امرأة بدوية تسرح بخرفان وسط المقابر. أركب العربية وأنا أفكر في الأمر. هل كانت كارثة ستحدث لو أن اليهود بقوا في مصر ولم يغادروها؟ لا أدري!
المشهد الخامس: عمارة يعقوبيان
أجلس في كايرو شيراتون وليس بجواري أحد يعكر صفوي. ومع ذلك أنا لست راضية تماما ، خلفي تجلس فتاتان كل حديثهما عن قصات الشعر والألوان والبيستاش والمووووف. حتى حين تركت كرسيّ وانتقلت لكرسي مجاور، كان صوتهما يعلو و يستفزني... أوف! البلد دي عايزالها خمسين يعقوبيان عشان الناس تفوق شوية!!
المشهد السادس: البيت بيتك
أفتح التليفزيون على محمود سعد يحاور عمرو موسى عبر التليفون ويسأل "هو البترول ده سلاح ولا مش سلاح؟". يرد عمرو موسى إن الموضوع مش مسألة توصيف وأن المسألة إمكانيات واستعدادات. أشعر بالأسى لأننا أصبحنا أمة مشلولة جهازها العصبي لا يستجيب لأي إشارات تأتي من المخ. شعور بالمرارة يترسب في حلقي كلما شاهدت صور الحرب في التليفزيون وكلما أحسست أننا جميعا مسئولون.. جمعاء ...كل الصامتين...
المشهد الأخير: The END
أقف مرة أخرى أمام المرآة... أتأمل وجهي... أشعر بالرضا أن الله خلق لي ملامح هادئة جميلة على أية حال... أنتزع نفسي من المرآة وأتجه إلى المطبخ لأعد كوبا من الشاي... أمشي باتجاه الصالة وأحس أن بداخلي أسطوانة مفرغة من الهواء... أتحسس ملامح وجهي وأشعر بها جامدة وكأن عليها طبقة من الشمع.. ألقي نظرة على الساعة وأكتشف أنها قاربت على الحادية عشرة.. يرن جرس الباب... ببطء، أفتحه لأجد مريم وسلمى واقفتين أمامي... تبتسمان لي.. تتعلقان بكتفي وتحتضناني...
نشر سابقا في بص وطل

موت موظف...

هيئة سكك حديد مصر تعتذر عن تأخر قطار القاهرة – الإسكندرية عن موعد الوصول المقرر بعشرين دقيقة وتقدم لكم هذا الكوبون بقيمة عشرين جنيها تستحق الخصم من قيمة تذكرتكم القادمة على سكك حديد مصر"_
"والنبي الحكاية مش ناقصاك، إذا ما لحقتش تاخد قهوتك ع الصبح وجاي تفوّق عليا بصوتك النواعمي ده، سيبني في حالي وحياة الغاليين عليك!!!!"-
"أنا آسف يا أفندم على أي إزعاج أكون قد سببته لكم، ويهمني أن اعتذر مرة أخرى باسم هيئة سكك حديد مصر على التأخير وأن أقدم لكم هذا الكوبون بقيمة عشرين جنيه!"-
"بأقولك إيه بقى، أنا متأخر عن معاد الشهر العقاري، والخزنة زمانها قفلت، ومش عارف حاتنيل أبات فين الليلة دي عشان أخلص مشواري اللي باظ بسبب لكاعة القطر الزفت ده، وأنت حضرتك طبعا على قلبك مراوح تلج، طبعا لا كان وراك مواعيد ولا نيله، ولابسلي البدلة العجايبي دي ، اللي ولا بدلة رئيس الوزرا ومسبسبلي شعرك وحاططلي كولونيا مفحفحة."-
"أنا فعلا مش عارف أعمل ايه، لكن أقل حاجة ممكن تتعمل هو تقديم الاعتذار، وكوبون الخصم ده"
- "أنت يعني مش ناوي تلم الدور، عارف إن ما غورتش من وشي الساعة دي ..."
- "طيب حضرتك بس سيب ياقة القميص، واسمحلي أجيب لحضرتك المشرف العام على خدمة العملاء في القطار يؤكد بنفسه الكلام اللي انا قلته لحضرتك".......-
"أنا بصفتي المشرف العام على خدمة العملاء في قطار القاهرة الإسكندرية أقدم إعتذاري باسم هيئة السكك الحديدية عن التأخير وأريد التأكيد على أن شعار الهيئة هو أن "المسافر ملك متوج"، وقد نما إلى علمي إن حضرتك كنت ذاهبا إلى الشهر العقاري لقضاء أمر ما وإن تأخر القطار سيضطرك إلى المبيت لقضاء ذلك الأمر غدا، ولذلك، فأنا لا أقدم فقط اعتذاري واعتذار الهيئة، بل أقدم لكم كوبون مبيت في استراحة الهيئة وكذلك كوبون الخصم، وتقبل اعتذار الهيئة مرة أخرى! حضرتك والله ما هي الكاميرا الخفية ولا غيره، طب شوف حضرتك الكوبونات بنفسك وحتلاقي عليها ختم الهيئة وحتتأكد وقتها إن كل اللي قاله زميلي واللي أنا أكدته تاني لحضرتك صحيح تماما، أمسك الرجل بالكوبونين امساك الصائم في رمضان عن السباب والشجار رغما عنه، ضاقت حدقتا عينيه وهي تتفحص الختم تفحص الصائم في عز الصيف لمائدة إفطار أول أيام رمضان ، تحجرت عضلات لسانه، تلاهثت أنفاسه بحثا عن بعض الهواء، أخذ يفتح أزرار القميص وأسند رأسه إلى مسند المقعد، أغمض عينيه وأسلم الروح ويده ما زالت قابضة على كوبون المبيت وكوبون الخصم

عن مدونة : تأملات ...دوس هنا

اخترنا لكم...حنان في الريف و خلي السعادة عادة مع ميادة!

وحشتوني جدا   أنا انهاردا في جو تمانيناتي جميل وباسمع هدى القمر لإيهاب توفيق والدنيا دندنة وباكتب لكم وأنا حاضنة البطانية  عاوزة اشاركم حاجت...