
عندما يلفك الكون بعباءته الرمادية الكبيرة

المباني الشاهقة

وعندما وجدت رسالته كان عقلها يعمل بسرعة
حتّى تقرأ رسالته وتفهمها وتطلق على كلماتها حُكْماً لا غُبار عليه، لكنها لم تجد سوى كلمات شكر: "شكر على الشِّعر. أشوفِك في المحاضرة". وعاودت قراءة الرسالة وقلَّبت الكلمات على وجوهها وفتشت بين الحروف علَّها تجد كلمة تكشف عن شعور خاص أو حرف زائد يدل على اضطراب يد، لكنها لم تعثر على شيء. كانت رسالته كرسائله السابقة، تأتيها روتينية تبدأ بـ"عزيزتي" وتنتهي بـ"خالص تمنياتي"، وتحوي بداخلها رسالة صمّاء كالْمُونَة فوق الطوب الأحمر، نادراً ما تلمح فيها انبعاجاً أو اطّراداً.
وعندما أغلقت باب الشقة ونزلت تُهروِل على سلالم البيت واتجهت إلى المحطة، كانت رسالته لا تزال عالقة بذهنها وتتجسَّد أمامها بنايات شاهقة رمادية اللون، ولم يُزِحْ تلك الصورة من مخيّلتها سوى ذلك الأتوبيس الأحمر الذي يأتي دائماً مسرعاً ممتلئاً عن آخره. وقفزت به واستطاعت أن تجد لها كرسيّا. وعندما نظرت عبر النافذة كانت كل البنايات التي تراها تجري أمامها، تذكّرها برسالته. وتبادرت الأسئلة إلى ذهنها: "تُرَى هل سقط منه التنوين سهواً؟ هل أعجبه الشعر؟ هل يشعر بمشاعرها ويحسُّها؟" وعندما لم تجد إجابة شافية لأيّ من تلك الأسئلة، قامت وأغلقت النافذة وظلَّت تنظر أمامها باتجاه السائق. وتمنَّت أن يَعطُل الأتوبيس ولا يأخذها للجامعة، ولكنه لم يَعْطُل، ووجدت نفسها بعد قليل تقف على عتبة الباب. وأخذت تردّد الشعر الذي أرسلته له: "قل لي ولو كذباً كلاماً ناعماً قد كاد يقتلني بك التمثال". لو كانت قالت تلك الكلمات لطفل صغير لربّما أحسَّ حيرتها وفهمها، "فلماذا لا أثور إذَن؟" قالتها وهي تحطّ قدميها على الأرض كمن وجد ظلاًّ يحتمي به بعد ترحال طويل. وظلَّت طوال سور الجامعة تفكّر في أن تفتعل معه مشاجرة ثم تتركه حائراً لا يعرف سرّ تغيُّرها، وتخيَّلت انقباض ملامحه ووجوم وجهه، وتخيَّلت بريق الانتصار في عينيها وهي التي طالما حبست مشاعرها وأخفَتْها.
وعندما وصلت المدرَّج الممتلئ جاء يسأل عن محاضرة الأمس.
- بس أنا لسة عايزة أطلعها.
- خدي وقتك وأنا قاعد هناك، متشكِّر أوي.
كانت تشعر بروحها تنسحب إلى أسفل، وبكل مشاعر الثورة بداخلها تتكاثف إلى قطرات عرق تغزو جسدها وتغرقه. نظرت عبر نافذة المدرج تتلمَّس الأفق الرحب، لكنها أعادت بصرها سريعا؛ فقد كان ما يصدمها حقاً ويشل قدرتها على التفكير هو تلك المباني رمادية اللون التي تكاد تلمحها بوضوح عبر النافذة.
وعندما وصلت المدرَّج الممتلئ جاء يسأل عن محاضرة الأمس.
- بس أنا لسة عايزة أطلعها.
- خدي وقتك وأنا قاعد هناك، متشكِّر أوي.
كانت تشعر بروحها تنسحب إلى أسفل، وبكل مشاعر الثورة بداخلها تتكاثف إلى قطرات عرق تغزو جسدها وتغرقه. نظرت عبر نافذة المدرج تتلمَّس الأفق الرحب، لكنها أعادت بصرها سريعا؛ فقد كان ما يصدمها حقاً ويشل قدرتها على التفكير هو تلك المباني رمادية اللون التي تكاد تلمحها بوضوح عبر النافذة.
من "البلياتشو"- دار ميريت
Subscribe to:
Posts (Atom)
اخترنا لكم...حنان في الريف و خلي السعادة عادة مع ميادة!
وحشتوني جدا أنا انهاردا في جو تمانيناتي جميل وباسمع هدى القمر لإيهاب توفيق والدنيا دندنة وباكتب لكم وأنا حاضنة البطانية عاوزة اشاركم حاجت...
-
بما أن العبدة لله لازالت من مشاهدي البيت بيتك و متابعي قنوات النيل المتخصصة وكل القنوات المحلية الأخرى التي تحجب عنك كثيرا المية والنور، فنح...
-
صدق أو لا تصدق، لم أكن استمعت إلى أغنية العنب كاملة حتى ذلك اليوم؛ كنت أكتب قصة جديدة وكان من المفترض أن أضمن كلمات الأغنية داخل القصة، لذا ...
-
قصر الحمراء في الأندلس تعرفت إلى البرنامج صدفة. شاشة صغيرة على صفحة “البي بي سي فور” على الإنترنت لها عنوان “عندما حكم المغاربة أوروبا”. لا ...