تعرفت إلى البرنامج صدفة. شاشة صغيرة على صفحة “البي بي سي فور” على الإنترنت لها عنوان “عندما حكم المغاربة أوروبا”. لا يخفى على أحد حضارة العرب في “الأندلس”، أمَا أن يحمل الفيلم عنوانا يشير إلى “أوروبا” بأكملها، فالأمر كان بالنسبة لي يستحق المشاهدة.
الفيلم ”عندما حكم المغاربة أوروبا” للمؤرخة –”بيتني هيوز”. أذيع للمرة الأولى في قناة “البي بي سي فور” في عام 2005، ولا يزال يُعرض حتى الآن. إذا ما كتبت الأسم في جوجل، ستجد له صفحة في “الوكيبديا”، وتجد عرضا له في عدد لابأس به من المدونات التي تُكتب بالإنجليزية، وصفحة على موقع الأمازون. باختصار الفيلم الوثاقي نال اهتماما في بعض الدوائر لأنه يقدم صورة مغايرة للإسلام. كما تقول “بيتي هيوز” نفسها.. ” لم يكن هذا هو الإسلام الجامد الذي في تصور (البعض) بل كان إسلاما تقدميا يحتفي بالحياة”. يقدم الفيلم قصة صعود وهبوط الحضارة العربية ليس فقط في أسبانيا بل في أوروبا، من أين أبدأ؟
في القرن السابع الميلادي ظهر الرسول محمد صلى الله عليه وسلم. خلال عدة عقود أصبح للمسلمين إمبراطورية شاسعة. الحضارة قامت لأسباب:
واحد..الأمر الذي جاء لمحمد صلى الله عليه وسلم.. أقرأ. الإسلام -كدين جديد- شجع على تعليم القراءة والكتابة في الوقت الذي كانت فيه الحضارة الرومانية-بعد دخول المسيحية- تُؤثر القراءة والكتابة على النخبة. الجوامع كانت مدارس لتعليم القراءة والكتابة والنحو. على سبيل المثال، في مدرسة السلطان “أبي عنان” بالمغرب، كُتبت على الجدران الآتي: “أنا مجلس العلم. فتعالى يا مسلم. تعالى وتعلم. لأنه بالعلم تستطيع أن تكون ما تريد في المستقبل”.
اتنين، غالب الأفكار الأغريقية كانت تتلاقى في مكتبة الأسكندية. ولما فتح العرب الأسكندرية في عام 641 ميلادية أصبحت الأفكار الأغريقية طوعا لهم. لم يكن بغريب أن يقدم العرب ميراثا للحضارة -وقتها- لأنه في الوقت الذي كانت فيه الحضارة الرومانية تأخذ موقفا حذرا من الميراث الأغريقي “الوثني”؛ مثلا في عام 529 ميلادية، قام الإمبراطور “جستنيان” بإغلاق المدرسة الإغريقية للفلسفة؛ في الوقت ذاته، كان العرب ينهلون مما تركته الحضارة الأغريقية “الوثنية” من أفكار؛ عنى ذلك إنهم ترجموا فعليا كل ما كتب الأغريق وأضافوا عليه بعد ذلك.
تلاتة، العلم كان على قمة أجندة المسلمين، طور المسلمين الجبر عن الفلاسفة الأغريق؛ قصر الحمراء على سبيل المثال انتصار للمعادلات الحسابية بجانب القيمة الجمالية. في الطب، أقيمت في قرطبة عميلات جراحية لم تكن لتعرفها أوروبا سوى بعدها بمئات السنين.
أربعة، أدخل العرب الورق –المأخوذ عن الحضارة الصينية بالأساس – إلى أسبانيا؛ وكان هذا كافيا لتحويل التكوين الثقافي لأوروبا لأسباب أيضا سأذكرها فيما بعد؛ حُب قرطبة للكتب صار أسطوريا: مكتبة واحدة- ضمن سبعين مكتبة- في قرطبة شملت نصف مليون كتاب، ضمنها آخر ما توصل له العلم وقتها في أبحاث الفضاء. قرطبة كانت مدينة واحدة ضمن مدن أخرى.
خمسة، بحلول القرن العاشر الميلادي صارت قرطبة العاصمة الرسمية للأندلس، عاصمة حضارية عالمية، يقطنها ما يقرب من مئة ألف مواطن، أكبر مستوطنة في أوروبا وقتذاك. بها سبعون مكتبة وما يزيد على ثلاثمائة حانة.
في عام 912 يجيء حاكم جديد لقرطبة، عبد الرحمن الثالث، يأخذ قرطبة لمكانة حضارية أبعد. ينصب نفسه حاكما أوحد للمسلمين؛ يُحول أسبانيا من مجرد “إمارة” إلى قوة محورية في حضارات الإسلام، لتأكيد مكانته، يقيم قصرا في مدينة جديدة أسمها “الزهراء” .
ستة، يتحول بلاط مدينة الزهراء لصورة حضارية خالصة، في بلاط القصر تترد طبقات وطبقات من أنغام آلات موسيقية طورها العرب. هناك سيدات يجدن فن الحديث.. والغناء.. وتأليف الشعر وإلقائه.. “الحب هو نغمة محببة .الحر منها لا يريد أن يُعرف. والمصاب بها لا يريد أن يُشفى”؛ تلك المفاهيم عن الحب – الحب لذاته- انتقلت إلى أوروبا عن طريق المغنين الفرنسيين الرحالة أو “التروبادورز”، اللذين تأثروا بغناء السيدات في الأندلس.
سبعة، تسقط “مدينة الزهراء” لإن التجنيد لم يكن إجباريا على مواطنيها. في ذات الوقت، تقام الدعوة لحروب صليبية في الشرق، تجر معاها حروبا في الأندلس؛ تتساقط مدن الأندلس الواحدة تلو الآخرى، يُطرد الآلاف، ويبقى البعض، الحماية مقابل المال.
تمانية، مع نهاية القرون الوسطى، تشهد أوروبا ثورة فكرية يُطلق عليها فيما بعد “عصر النهضة”، من المعروف أن “عصر النهضة” يبدأ في إيطاليا بإحياء الكلاسكيات، لكنه يبدأ قبل ذلك في أسبانيا ، تحديدا في “طليلطة”.
تسعة، في عام 1085 ميلادية تسقط طليلطة ، ويُسمح -على عكس من مدن أخرى- للعرب البقاء بها، يتوافد الأوروبييون بالمئات إلى طليطلة ، يتعلمون اللغة العربية، ويقرأون كتبها، تقام ورش عمل بين مسيحين ومسلمين وويهود، بهدف ترجمة النصوص العربية إلى اللاتينية. مثلما قام العرب بترجمة النصوص الأغريقية إلى العربية قبل أربعمائة عام، يقوم الأوروبيون بنقل الفكر العربي إلى اللاتينية.
عشرة، في عام 1492، تسقط آخر الممالك العربية في أسبانيا- غرناطة، في ذات الوقت، يتستقبل ملوك أسبانيا الجدد “فيرنداد” و”إيزابيلا” ”كرستوفر كولمبوس” قبل رحلته لاكتشاف العالم الجديد.
ينتهي وجود العرب في الأندلس، ويبقى السؤال يطل بثقل على شرفات الحاضر. هل كانت حضارة الأندلس ذات نظام سياسي “علماني”؟ إذا ما قمت بتعريف “العلمانية” –كمصطلح معاصر- على إنها : واحد، احترام الحريات الشخصية وقبول الآخر سواء كان يختلف أو يتفق مع قناعاتك ، اتنين، الاهتمام بالعلم بمعناه الواسع، تلاتة، الفصل بين الدين –كطاقة روحية- والدولة –كنظام سياسي- ، فإن الأجابة ستكون نعم. الحضارة العربية كانت ذات نظام سياسي علماني، أو هكذا آراها!
نشر في البديل