شيماء زاهر
تعود ملامح الحياة المدنية في مصر إلى عام 1882 عندما قام الخديوي توفيق بإصدار أول دستور للبلاد يُمكّن مجلس النظار من رقابة الحكومة؛ لكن قوات الاحتلال ما لبثت أن ألغته ليستمر كفاح المصريين لدولة مستقلة ذات سيادة. دستور 1923 جاء تتويجا لثورة 1919 التي رفعت شعار “الدين لله والوطن للجميع”، في مارس 1924 انعقد أول دستور مصري بموجب دستور 23 الذي استمر العمل به قرابة العشرين عاما. مع قيام الجمهورية، في عام 1952، صدرت عدة دساتير: عام 1953 ؛ 1956 ؛ دستور الوحدة بين مصر وسوريا عام 1958. دستور 71 كان بمثابة الضيغة النهائية للدستور الحالي، أجريت تعديلات عليه في عام 1980؛ عام 2005 وعام 2007. في الخامس والعشرين من يناير 2011، اندلعت ثورة “اللوتس” التي نتج عنها تنحي رئيس الجمهورية وتعطيل العمل بالدستور. طوال أيام الثورة الثمانية عشر ، كان الثوار يعزفون على ذات النغمة: دولة مدنية تعيد الكرامة للمواطن المصري وتحقق العدل والمساواة. المادة الثانية من الدستور ظلت مع ذلك الأكثر جدلا بين المؤيد على إبقائها والمعارض.
الطرف الأول في هذا الجدل، المؤيدون لإبقاء المادة التي تنص على أن الإسلام “الدين الرسمي للدولة”، يرون في وجود المادة تمثيلا طبيعيا لفكرة “الكوتة” أو الأغلبية المسلمة في مقابل الأقلية المسيحية؛ مما يستتبع –من وجهة نظرهم- إعلاء الهوية الإسلامية. في “الفيس بوك” وفي النقاشات الحية تتطرق وجهة النظر المؤيدة دائما إلى المقارنة بين وضع الأقليات في مصر، وخارج مصر، تحديدا في العالم الغربي. فوضع المسيحيين في مصر لا يمكن أن يقارن بأية حال مع وضع المسلمين في العالم الغربي الذي يصل إلى حد الرفض في بعض الحالات؛ الاستفتاء الذي أقيم في السويد لبناء المساجد مثلا ، أو الأزمة الأخيرة لبناء مسجد في الولايات المتحدة الأمريكية ما هي إلا أمثلة واضحة على الوضع الجيد الذي تتمتع به الأقليات في مصر. على الرغم من وجاهة تلك الأمثلة، إلا أن وجهة النظر هنا، يشوبها خلط كبير إذا ما أمعنا النظر.
فعلى الرغم من أن قليلين قد يختلفون حول ملامح التمييز ضد المسلمين في الغرب، إلا إنه لا يمكن بأية حال المساواة بين الحالتين؛ فالمسيحيين في مصر -على العكس من المسلمين في الغرب – جزء من نسيج البلد، بحكم اللغة المشتركة والثقافة المشتركة والتاريخ. فالدين المسيحي ظهر في مصر في منتصف القرن الأول الميلادي؛ في عام 325 ميلادية، أعلنت المسيحية عقيدة رسمية للإمبراطورية الرومانية، إلا أن المصريين تعرضوا للاضطهاد من قبل الإمبراطورية الرومانية التي حاولت أن تنزع عن الكنيسة القبطية دورها الرائد في العالم المسيحي، فقامت بعزل بابا الإسكندرية وتعيين بطريرك روماني يدعى “المقوقس”. عندما فتح العرب مصر في القرن السابع الميلادي كان “المقوقس” معينا من قبل روما أما البابا المصري فقد كان منفيا وهاربا في الأديرة الصحراوية ولم يرجع إلي منصبه إلا بعد خروج “المقوقس”.
دخول الفتح الإسلامي كان صفحة أخرى من تاريخ مصر، إلا إنه من سمات العبقرية المصرية إنها قادرة دائما على مزج الحضارات بها والإضافة عليها، أحد الأمثلة هنا اللغة: فكما طور المصريون اللغة القبطية، مزيجا من اليونانية والديموطيقية، جاءت العامية المصرية مزيجا من القبطية و العربية الفصحى ، تجد مئات الأمثلة على ذلك في العامية المصرية؛ “يوحا” على سبيل المثال التي نستخدمها في شهر رمضان الكريم تعني بالقبطية “القمر”. بالنظر إلى ما سبق ، لا يمكن النظر إلى المسيحية باعتبارها دين الأقلية، فالتاريخ المسيحي ساهم في الشخصية المصرية مثلما ساهم التاريخ الإسلامي ؛ ولا أدل على ذلك من لفظة “قبطي”- المشتقة من كلمة يونانية بنفس النطق- وتعني المصري.
قراءة بعض صفحات التاريخ الإسلامي تؤكد بدورها أن مبدأ إعلاء الهوية لم يكن واردا كهدف استراتيجي إذا ما جاز التعبير؛ فالرسول محمد (صلى الله عليه وسلم) لو كان مقتنعا بهذا المبدأ، لما ارتضى عليه الصلاة والسلام أن يضع المسلمون تحت أمرة حاكم مسيحي في الهجرة الأولى إلى الحبشة. في تاريخ مصر الحديث، كانت الهوية في فترات الازدهار، “مصرية” خالصة لا تخضع لحسابات الأغلبية والأقلية العددية. دستور 1923 لم يشر إلى أن الشريعة الإسلامية المصدر الرئيسي للتشريع، بل أقر على أن “المصريين لدى القانون سواء. وهم متساوون في التمتع بالحقوق المدنية والسياسية وفيما عليهم من الواجبات والتكاليف العامة، لا تمييز بينهم في ذلك بسبب الأصل أو اللغة أو الدين”. وما جاء في الخمسينات من روح التسامح كان امتدادا لمبدأ المواطنة الذي أرسته ثورة 1919.
بعد قرابة مائة عام من تحقق الدولة المدنية في مصر، لقى عشرات الشهداء نحبهم في شوارع “التحرير” وهم يحلمون بدولة تعيد الكرامة والعدل والمساواة إلى مواطنيها، ولا أظن أن الدعوة لإعادة النظر في المادة الثانية من الدستور المصري تكون شيئا آخر سوى التحيز للحق والخير، ذات المبادئ التي يمثل الشهداء رمزا حيا لها وإن فارقونا.
البديل، 18 فبراير، 2011
تعود ملامح الحياة المدنية في مصر إلى عام 1882 عندما قام الخديوي توفيق بإصدار أول دستور للبلاد يُمكّن مجلس النظار من رقابة الحكومة؛ لكن قوات الاحتلال ما لبثت أن ألغته ليستمر كفاح المصريين لدولة مستقلة ذات سيادة. دستور 1923 جاء تتويجا لثورة 1919 التي رفعت شعار “الدين لله والوطن للجميع”، في مارس 1924 انعقد أول دستور مصري بموجب دستور 23 الذي استمر العمل به قرابة العشرين عاما. مع قيام الجمهورية، في عام 1952، صدرت عدة دساتير: عام 1953 ؛ 1956 ؛ دستور الوحدة بين مصر وسوريا عام 1958. دستور 71 كان بمثابة الضيغة النهائية للدستور الحالي، أجريت تعديلات عليه في عام 1980؛ عام 2005 وعام 2007. في الخامس والعشرين من يناير 2011، اندلعت ثورة “اللوتس” التي نتج عنها تنحي رئيس الجمهورية وتعطيل العمل بالدستور. طوال أيام الثورة الثمانية عشر ، كان الثوار يعزفون على ذات النغمة: دولة مدنية تعيد الكرامة للمواطن المصري وتحقق العدل والمساواة. المادة الثانية من الدستور ظلت مع ذلك الأكثر جدلا بين المؤيد على إبقائها والمعارض.
الطرف الأول في هذا الجدل، المؤيدون لإبقاء المادة التي تنص على أن الإسلام “الدين الرسمي للدولة”، يرون في وجود المادة تمثيلا طبيعيا لفكرة “الكوتة” أو الأغلبية المسلمة في مقابل الأقلية المسيحية؛ مما يستتبع –من وجهة نظرهم- إعلاء الهوية الإسلامية. في “الفيس بوك” وفي النقاشات الحية تتطرق وجهة النظر المؤيدة دائما إلى المقارنة بين وضع الأقليات في مصر، وخارج مصر، تحديدا في العالم الغربي. فوضع المسيحيين في مصر لا يمكن أن يقارن بأية حال مع وضع المسلمين في العالم الغربي الذي يصل إلى حد الرفض في بعض الحالات؛ الاستفتاء الذي أقيم في السويد لبناء المساجد مثلا ، أو الأزمة الأخيرة لبناء مسجد في الولايات المتحدة الأمريكية ما هي إلا أمثلة واضحة على الوضع الجيد الذي تتمتع به الأقليات في مصر. على الرغم من وجاهة تلك الأمثلة، إلا أن وجهة النظر هنا، يشوبها خلط كبير إذا ما أمعنا النظر.
فعلى الرغم من أن قليلين قد يختلفون حول ملامح التمييز ضد المسلمين في الغرب، إلا إنه لا يمكن بأية حال المساواة بين الحالتين؛ فالمسيحيين في مصر -على العكس من المسلمين في الغرب – جزء من نسيج البلد، بحكم اللغة المشتركة والثقافة المشتركة والتاريخ. فالدين المسيحي ظهر في مصر في منتصف القرن الأول الميلادي؛ في عام 325 ميلادية، أعلنت المسيحية عقيدة رسمية للإمبراطورية الرومانية، إلا أن المصريين تعرضوا للاضطهاد من قبل الإمبراطورية الرومانية التي حاولت أن تنزع عن الكنيسة القبطية دورها الرائد في العالم المسيحي، فقامت بعزل بابا الإسكندرية وتعيين بطريرك روماني يدعى “المقوقس”. عندما فتح العرب مصر في القرن السابع الميلادي كان “المقوقس” معينا من قبل روما أما البابا المصري فقد كان منفيا وهاربا في الأديرة الصحراوية ولم يرجع إلي منصبه إلا بعد خروج “المقوقس”.
دخول الفتح الإسلامي كان صفحة أخرى من تاريخ مصر، إلا إنه من سمات العبقرية المصرية إنها قادرة دائما على مزج الحضارات بها والإضافة عليها، أحد الأمثلة هنا اللغة: فكما طور المصريون اللغة القبطية، مزيجا من اليونانية والديموطيقية، جاءت العامية المصرية مزيجا من القبطية و العربية الفصحى ، تجد مئات الأمثلة على ذلك في العامية المصرية؛ “يوحا” على سبيل المثال التي نستخدمها في شهر رمضان الكريم تعني بالقبطية “القمر”. بالنظر إلى ما سبق ، لا يمكن النظر إلى المسيحية باعتبارها دين الأقلية، فالتاريخ المسيحي ساهم في الشخصية المصرية مثلما ساهم التاريخ الإسلامي ؛ ولا أدل على ذلك من لفظة “قبطي”- المشتقة من كلمة يونانية بنفس النطق- وتعني المصري.
قراءة بعض صفحات التاريخ الإسلامي تؤكد بدورها أن مبدأ إعلاء الهوية لم يكن واردا كهدف استراتيجي إذا ما جاز التعبير؛ فالرسول محمد (صلى الله عليه وسلم) لو كان مقتنعا بهذا المبدأ، لما ارتضى عليه الصلاة والسلام أن يضع المسلمون تحت أمرة حاكم مسيحي في الهجرة الأولى إلى الحبشة. في تاريخ مصر الحديث، كانت الهوية في فترات الازدهار، “مصرية” خالصة لا تخضع لحسابات الأغلبية والأقلية العددية. دستور 1923 لم يشر إلى أن الشريعة الإسلامية المصدر الرئيسي للتشريع، بل أقر على أن “المصريين لدى القانون سواء. وهم متساوون في التمتع بالحقوق المدنية والسياسية وفيما عليهم من الواجبات والتكاليف العامة، لا تمييز بينهم في ذلك بسبب الأصل أو اللغة أو الدين”. وما جاء في الخمسينات من روح التسامح كان امتدادا لمبدأ المواطنة الذي أرسته ثورة 1919.
بعد قرابة مائة عام من تحقق الدولة المدنية في مصر، لقى عشرات الشهداء نحبهم في شوارع “التحرير” وهم يحلمون بدولة تعيد الكرامة والعدل والمساواة إلى مواطنيها، ولا أظن أن الدعوة لإعادة النظر في المادة الثانية من الدستور المصري تكون شيئا آخر سوى التحيز للحق والخير، ذات المبادئ التي يمثل الشهداء رمزا حيا لها وإن فارقونا.
البديل، 18 فبراير، 2011